[ هذا المقال جزء من ”أصوات من أجل غزة" وهو ملف خاص تنشره جدلية على مدار شهر كامل. للإطلاع على بقية المقالات اضغط/ي هنا]
لدى تناولنا لأعمال الفنانة افلسطينية رنا بشارة ضمن سياق العلاقة الكولونيالية بين المستعمِر والمستعمَر، ثمة محورين يجب أن نتحرك عبرهما، وتنبني من خلالهما نظرتنا لحالة الحوار الفني التي أنتجتها تلك الأعمال وعلاقتهم بمكانهم المحاصر، غزّة خصوصًا وفلسطين عمومًا:
- المحور الأول، وهو السؤال الذي لطالما أثارته دراسات الكولونيالية ومابعد الكولونيالية (وحالتنا لاتزال كولونيالية): إلى أي حد نجحت قوى الإحتلال في إسكات المحتَل، وإذا كان الأمر كذلك، فهل نموضع الفلسطيني الضحية موضع الأخرس الذي لا ينتج كلامًا، ومن ناحية أخرى أذا كان الأمر على غير ذلك، أليس فيه إسباغًا رومانسيًا، يستسيغ ديمومة العلاقة القهرية ويعضونها، و يقلل من أثر "العنف" الكولونيالي؟
في ذلك المحور يغدو سؤال المستعمَر عن مدى إنفصال خطابه عن خطاب المستعمِر بنيويًا، سؤالًا عضويًا فيما يتعلق بفاعليته التحررية، فبأي الأصوات سيتحدث المتعمَر، بصوت أسلافه أم واقعه وإنغراس المستعمِر فيه، أم بصوته هو من واقعه؟
- المحور الثاني، وهو محور بنيوي فني بامتياز، فإذا كانت "المباشرية" في العمل الفني مقتلة له، فإن عناصر العمل الفني بين أيدينا، عناصر شديدة المباشرية، إلا أنها تؤسس لحالة متجاوزة من حيث إدراكها لواقعها و التحدث معه وباسمه. فرموز أعمال بشارة، وتفاصيلها هي من البساطة الكثير، مايجعلها دائمًا حاضرة في اليومي المعاش غزيًا، وهو ما يعطيها نوعًا من الحركية في التعبير و المساس بتفاصيل الواقع الغزي وإدراكه لدى المتلقي، كالخبز ز القطن مثلًا.
من يعلم قائمة المواد الممنوعة من الدخول للقطاع الغزي المحاصر، يدرك المفهوم المتجاوز للحصار إجرائيًا، فالقطاع يعاني خنقًا حياتيًا في جانب، وفي آخر يكشف قدرة القطاع ومايمثله من رغبة في الحياة على أن يكون شوكة في حلق الإحتلال، والحصار معًا.
في "خبز من أجل فلسطين"، تحرر بشارة، الخبز والقطن من وجودهم المباشر في الحياة والإدراك الفلسطينيين من دون تمام تحرر، وتحيلهم رمزين قادرين على حمل معانٍ بشكل يكسر ما أُريد للقطاع من خرس، فالخبز الذي يعد جزءًا أساسيًا من الحياة (الإنسانية عمومًا، والفلسطينية خصوصًا)، والقطن الذي نراه في مشاهد الحياة اليومية في كل مكان، يصبحان بنية تعبيرية متعاضدة، فالخبز بما يحمل من إمكانيات العيش و البقاء، ورمزية الجوع و/أو الشبع، يُحشى بالقطن الذي يستخدم لتطبيب جرحى وشهداء الإحتلال وعلاقة الجسد الفلسطيني و إصراره على البقاء في الزمان والمكان الفلسطينيين في مواجهة محاولات نفيه منهما، ولعل استخدام القطن هاهنا يستبطن رمزية "التحنيط" و"التطبيب"، فالجسد المُحنط يُحشى بالقطن ويقطَّب بخيط طبي، وبالتالي يحال العمل الفني ككل إلى حالة من حوار الحياة والموت الفلسطينيَّن تحت الحصار وإن بدا في بعض نماذجه وتصويراته متفجرًا، فلايكون هناك خبز إلا بطعم الموت والدم، ولا يكون هناك موت إلا وبه حياة، وهنا تنكسر فكرة رومانسية المحتل وجمالية المقاومة دونما أي أثر تخديري للعقل والإدراك يؤسس لحاجة "الآخر المحتل لنعرف "ذواتنا" المحاصرة أكثر من "ذواتنا" الحرة، وهو مايظهره دور الخبز من المشهد التعبيري، مع التأكيد أن الإحتلال مهما بلغ من قدرته على حصار الخبز فلا يزال الغزي قادرًا على المقاومة وهزيمة حداثة الدول والماكنة.
"خبز من أجل غزة"
لايختلف الأمر كثيرًا في أعمال متفرقة لبشارة تتناول الشأن الغزي، فقنية حليب الأطفال المحشوة بالمسامير، يمكن قراءتها في سياق الحصار (مواد البناء متضمنة ضمن قائمة الممنوعات على القطاع المحاصر)، فالطفولة ببراءتها لا يمكن إلا أن تعني في حالة الحصار تراكمًا إنسانيًا وجوديًا، كما يعتبر الخبز/الحياة شعلة مقاومة و إعلان بقاء ووجود، يُفقد الحصار أثره الإجرائي المادي.
العناصر الفنية البنيوية هاهنا لا تحدد بعلاقتها بالآخر/المستعمِر بقدر ما تحددها علاقتها بالذات/المستعمَر، وهو ما يعطيها قدرة هوياتية تعبيرية لايمكن محاصرتها، فالحجر المستخدم كرمز فلسطيني للإنتفاضة والمقاومة، تمامًا كالخبز والقطن، يُعرف لذاته كحق في الحياة ولانتمائه لمحيطه الفلسطيني، قبل أن يُعرَف بالمستعمِر.
في عرض أدائي سمي "حصار غزة" وقدم في العاصمة الفرنسية، استخدمت بشارة جسدها في التعبير الفني، مضيقة الهوة –في النقد الفني- بين الجسد/الوسيط/Medium والجسد/الرمز/Metaphor ، وذلك عن طريق تغطية جسدها برمز الحياة الذي اختارته –وحاربه الاحتلال- "الخبز" مستخدمة الأربطة البلاستيكية التي تسخدمها قوات الإحتلال في تقييد من تقبض عليهم من الفلسطينيين. في هذا العمل تُحمل بشارة جسدها المؤنث المتشح بالسواد، وما في هذا التأنيث الجسدي من رمزية عضوية للأرض، منبع الثقافة الفلسطينية الأمومية المقاومة (نذكر هنا أن المقاومة لا تبدأ من منظومة المدينة الذكورية، بل تأتي من القرى المعتمدة على الأرض والزراعة في وجودها، وهو ماتحاول الحداثة الإسرائيلية على الدوام فصله مدينيًا وإحتلاليًا)، تساؤلًا عن الجلد البشري وماحوى في داخله من روح فلسطينية وسؤالها الوجودي، إذ أن "لأجسادنا وجهان/جلدان، وجه/جلد على العالم الخارجي، في الـ"هناك" البعيد القريب، حيث يتماس "الآخر" مع سطحه، فنعرف به ذواتنا وحدوده، ووجه/جلد على ذواتنا يطل في الـ"هنا"، هو الوجه القريب للمسافة البعيدة التي تهجس فيها أرواحنا بما يضج فيها وبها، هي المسافة الرمزية للأنا"، وهنا لابد من تأمل دلالات الجسد والجلد، فإذا كان المسرحي والباحث الألماني إلياس كانيتي (1905 – 1994) يرى أن للجلد أهمية كبرى، لدرجة جعلته يرى أن اللمس باعتباره تماسًا مع الخارج (الخارج عن الجلد) يؤسس لخوف الإحتكاك، وما قد يكون من إحتكاك بمجهول، إذ يتجنب الشخص الاحتكاك الغير معرَّف، فالملابس وغيرها من المسافات التي أوجدها الجسد حول نفسه لملء هذا الخواف من الاحتكاك، جسد بشارة هاهنا باعتباره وسيطًا ومعبرًا عن الجسد الغزي المحاصر و المهدد، لايدرك مساحة الجسد الداخلية/الوجودية إلا بمعرفه موقعه الذاتي من العالم، وذلك عن طريق رغبته في الحياة/الخبز المقيد إلى أنماط عنف وسيطرة بلغت ذروتها بحصار الجسد الغزي والتحكم في حقه في الحياة: Necropolitics.
فإذا كان "الوجه ميزة الإنسان وحده" كما أشار بذلك دافيد لوبروتون (1953 - ..) في كتابه "أنثروبولوجيا الجسد و الحداثة"، فوجه بشارة في هذا العمل لا ينزع بفقدانه أو خلوه من القيمة الدلالية أي شيء من مميزات الجسد كوسيط ورمز معًا، ودلالته السيميولوجية، وبالتالي يغدو الجسد هاهنا عن طريق التحكم في بقائه من خلال وجوده في الزمان و المكان الفلسطينيين، ومعرفته الوجودية بذاته النابضة بالحياة في مواجهة الموت، حاملًا للمعنى، تمامًا كما كان محمد الدرة وفارس عودة، فوجوههم هاهنا لا تحمل رمزية مثلما حملت أجسادهم وجلودهم، وكلاهما كانا في مواجهة كيان حداثي إحتلالي: دولة إسرائيل.